دين و دنيا

مع كتاب الله ج13 بقلم الشيخ موسى الهلالى

قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} لم يبين هنا هل واعده إياها مجتمعة أو متفرقة ؟ ولكنه بين في سورة الأعراف أنها متفرقة، وأنه واعده أولا ثلاثين، ثم أتمها بعشر، وذلك في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [7/142].
قوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الظاهر في معناه: أن الفرقان هو الكتاب الذي أوتيه موسى، وأنما عطف على نفسه؛ تنزيلا لتغاير الصفات منزلة تغاير الذوات؛ لأن ذلك الكتاب الذي هو التوراة موصوف بأمرين:
أحدهما: أنه مكتوب كتبه الله لنبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والثاني: أنه فرقان أي فارق بين الحق والباطل، فعطف الفرقان على الكتاب، مع أنه هو نفسه نظرا لتغاير الصفتين، كقول الشاعر: [المتقارب]
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
بل ربما عطفت العرب الشيء على نفسه مع اختلاف اللفظ فقط، فاكتفوا بالمغايرة في اللفظ. كقول الشاعر: [السيط]
إني لأعظم في صدر الكمي على ما كان في من التجدير والقصر
القصر: هو التجدير بعينه. وقول الآخر: [الوافر]
وقددت الأديم لراهشيه وألفى قولها كذبا ومينا
والمين: هو الكذب بعينه. وقول الآخر: [الطويل]
ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد
والبعد: هو النأي بعينه وقول عنترة في معلقته: [الكامل]
حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
والإقفار: هو الإقواء بعينه.
والدليل من القرآن على أن الفرقان هو ما أوتيه موسى.{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ}
قوله تعالى: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} لم يبين هنا من أي شيء هذا العجل المعبود من دون الله ؟ ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُُ خُوَارٌ} [7/148]، وقوله: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ } [20/88،87]، ولم يذكر المفعول الثاني للاتخاذ في جميع القرآن وتقديره: باتخاذكم العجل إلها؛ كما أشار له في سورة “طه” بقوله: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [88،87]، قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} [2/63]، أوضحه بقوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [7/171].
قوله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [2/63] لم يبين هنا هذا الذي أتاهم ما هو، ولكنه بين في موضع آخر أنه الكتاب الفارق بين الحق والباطل، وذلك في قوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [2/53].
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} أجمل قصتهم هنا وفصلها في سورة “الأعراف”، في قوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الآيات 163].
قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} لم يبين مقصودهم بقولهم: {مَا هِيَ} إلا أن جواب سؤالهم دل على أن مرادهم بقولهم في الموضع الأول {مَا هِي} أي: ما سنها ؟ بدليل قوله: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} الآية . وأن مرادهم بقولهم {مَا هِيَ} في الموضع الآخر هل هي عاملة أو لا ؟ وهل فيها عيب أو لا ؟ وهل فيها وشي مخالف للونها أو لا ؟ بدليل قوله: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [2/71].
قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} لم يصرح هل هذه النفس ذكر أو أنثى ؟. وقد أشار إلى أنها ذكر بقوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [2/73].
قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} الآية أشار في هذه الآية إلى أن إحياء قتيل بني إسرائيل دليل على بعث الناس بعد الموت؛ لأن من أحيا نفسا
واحدة بعد موتها قادر على إحياء جميع النفوس، وقد صرح بهذا في قوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [31/28].
قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} الآية لم يبين هنا سبب قسوة قلوبهم، ولكنه أشار إلى ذلك في مواضع أخر كقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [5/13]، وقوله: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [57/16].
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}اختلف العلماء في المراد بـ {الأماني} هنا على قولين.
أحدهما: أن المراد بالأمنية القراءة، أي: لا يعلمون من الكتاب إلا قراءة ألفاظ دون إدراك معانيها. وهذا القول لا يتناسب مع قوله {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} [2/78]؛ لأن الأمي لا يقرأ.
الثاني: أن الاستثناء منقطع، والمعنى لا يعلمون الكتاب، لكن يتمنون أماني باطلة، ويدل لهذا القول: قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [2/111]، وقوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [4/123].
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} الآية ، يعني: تقتلون إخوانكم، ويبين أن ذلك هو المراد، كثرة وروده كذلك في القرآن نحو قوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [49/11]، أي: لا يلمز أحدكم أخاه وقوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} [24/12]، أي بإخوانهم وقوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [2/54]، أي: بأن يقتل البرىء من عبادة العجل من عبده منهم إلى غير ذلك من الآيات.
ويوضح هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: “إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم، كمثل الجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، يتبين مما قبله أن البعض الذي آمنوا به هو فداء الأسارى منهم، والبعض الذي كفروا به هو إخراجهم من ديارهم وقتلهم ومظاهرة العدو عليهم، وإن كفروا بغير هذا من الكتاب وآمنوا بغيره منه.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى