أدب

الشعر ومدرسة الجن

تعقيبي على المقال الإسبوعي للناقد الأكاديمي الجليل أ.د. احمد فرحات بعنوان “مدرسة الجن” :

   كيف كان الشعر قبل وضع الفراهيدي لبحور الشعر؟ 

– الشعر من قديم الأزل كان يعتمد على الإحساس والإبداع في ايقاعات موسيقية ليس لها علاقة ببحور الشعر؛ بل تعتمد على الأذن الموسيقية والموسيقى الداخلية التي تكمن في الروح الشاعرية التي تحدث تناسقا في السياق اللغوي للبيت أو الشطر الشعري. 

  بعد ذلك أراد الخليل بن أحمد أن يضع نظاما عروضيا يفصل بين النثر والشعر، لأنه ظهرت في ذلك الوقت الخطب والمقامات والرسائل، فوضع بحور الشعر معتمدا على الحروف الساكنة والمتحركة ليصنع منها تفاعيل البحور التي وضعها النقاد أحد الأعمدة الأساسية في المعايير الشعرية وهذا المعيار ليس دقيقا للحكم على شاعرية الشاعر. 

  بحر الشعر لا يحدد مفردات البيت ومعناها بل العكس؛ إذا حددت بحور الشعر مفردات القصيدة ومعانيها؛ خرجت القصيدة من الشعر إلى النظم؛ لأن أبياتها نظمت على قوالب موسيقية محددة في البحور العروضية .

  أما الشعر هو الذي ينطلق من الروح تلقائيا مع المشاعر في صورة إبداعية تتناسق مع موسيقى داخلية في الشاعرية؛ ربما تتسق مع بحور الشعر المعروفة .

   أما المدارس العروضية التي ظهرت في الساحة الأدبية ومنها مدرسة الجن والبحور الشهوانية؛ إنها البحور التي نظمت عليها الابيات في أماكن اللهو والمجون والفجور في العصور السالفة، ماهي إلا مسميات توصل إليها بعض النقاد؛ نتيجة استدعاء المعنى من الموسيقى العروضية على حد قولهم، وتركيب المفردة اللغوية الملهبة للمشاعر على هذه البحر؛ ليأخذ البحر هذه التسمية الشهوانية، والبحور التي شيدت عليها هذه المعاني كما حددتها مدرسة الجن هي البسيط المنهوك، المتقارب القصير، المقتضب، المضارع، المنسرح القصير؛ هذه البحور بريئة من هذه التسمية، وبهذا الشكل تقع الأبيات تحت نطاق النظم وليس الشعر .. 

وهذا مقطع من أشعاري على وزن المتقارب الذي قيل عنه أنه من البحور الشهوانية من قصيدتي بعنوان “اغنية الحياة” :

“أصَارعُ فيكِ الأمَانِي ،

ومَا أنْ تكونِي في قبْضَتِي

تنْفَدِينْ ،

فأهْرعُ خلْفَ ظلالِ السِّنِينْ ،

فأنْكَبُّ فوقَ ربَا الكبْريَاءْ

أرانِي ضحيَّةَ هذا الصّراعْ ..”

 كل هذه المدارس مجرد مسميات وضعها النقاد لحصر بعض الشعراء في موضوع معين يروق لإجتهاداتهم النقدية .

ما الجن غير الذي يكتشف الجن في القصيدة العربية؛ هذا ما أثاره فينا مقالك المائز دكتورنا الغالي؛ دمت لنا علما من أعلام النقد الأدبي المعاصر .

الشاعر.عباس محمود عامر

“مصر”

=====================

مدرسة الجن

بقلم 

أ.د. أحمد فرحات

قرأت كثيرا من إهداءات العلماء والنقاد والشعراء، الذين يفرغون من تأليف كتبهم أو دواوينهم، أو رواياتهم، علمية أو أدبية أو نقدية، وفي كل إهداء تستشعر خجل المؤلف وتواضعه، وربما انتقاصا من قدره حتى يبدو متضائلا أمام عمله والقارئ. لكنك إن قرأت للشاعر السيد خلف أبو ديوان يستفزك إهداؤه كل استفزاز. فهو يقول في إهدائه لديوان عجيب كل العجب:

إلى الشعراء والغاوين…إلى الملوك والسوقة…إلى أولادي:ديوان- عليّ- ياسين.. أبوكم أشعر من امريء القيس والمتنبي وشوقي، إلَّا أن النقادَ لمَّا يقوموا به.إلى الإنس والجن..بعض كلام.

وفي رأيي أن هذا الاستفزاز ليس مقصودا به القارئ الكريم بقدر ما كان هدفا للنقاد لتحفيزهم، وإثارتهم لتناول شعره، بالدرس والفحص والدراسة، وهذه الإثارة ضرب من توهم الاستعلاء والتعالي من المبدع على النقاد، وأرى أنها نوع من الاستكتاب بطريق مباشر فج.

يقدم الشاعر السيد خلف لديوانه مقدمة توضح مذهبه الشعري، واختياره طريقة خاصة يظن أنه ينفرد بها دون سائر الشعراء فيقول: “فرأيت أن أحقق المتعة والجدة في كل قصيدة، محاولا الاختلاف عما نهجه القدماء والمحدثون من الشعراء، داخل القيود المعروفة والمضافة(كلام-موزون-مقفى-له معنى-ماتع-مصوِّر-حي-مؤول-موحٍ…إلخ.)، مطبقا هذا وغيره على نفسي، وعلى كل من يرى في ذاته الشاعرة أهلا للانضمام إليّ، والانتساب إلى (مدرسة الجن).

الجدة التي دعا الشاعر إليها تتمثل في امتطاء بحر المضارع نادر الاستخدام في الشعر العربي مما دعا المعري إلى مقولة جريئة قوية في الفصول والغايات أنه لم ينظم فيه القدماء، وقد جاء قول أبي العتاهية في المضارع: دعاني إلى سعادا دواعي هوى سعادا.

اعلم أيها الشاعر الفحل أن الجدة ليست في امتطاء بحر نادر أو قليل الاستعمال، وإنما هي دعوة إلى الجمال الروحي المنبعث من وراء البحر المستعمل، يطل جمال الشعر من وراء حجاب شفيف، لا هو بالمخفي ولا هو بالظاهر، يتحرك في ثنايا النص كتحرك الماء في النبع الصافي. كما أن معظم هذه البحور قليلة الاستعمال سيئة السمعة، فهي بحور شهوانية الموسيقا والمضارع يكفيك من لينه أن أول من نظم فيه أبو العتاهية، على ما ذكر المعري في الفصول والغايات، وقد كان أبو العتاهية مخنثا أول أمره. وهذا ما جعل الدارسين لموسيقا الشعر العربي يصفونه باللون الجنسي.

وقد سميت هذه البحور بالشهوانية؛ لأن نغمتها لا تكاد تصلح إلا للكلام الذي قصد منه قبل كل شيء أن يتغنى به في مجالس السكر والرقص المتهتك المخنث. ولو تأملتها جميعا وجدت في نغمتها شيئا يشعر بالشهوانية ولسمعت من نقرات تفاعيلها موسيقا ذات لون جنسي. وهذه البحور هي: البسيط المنهوك، المتقارب القصير، المقتضب، المضارع، المنسرح القصير.

فأوزانها فاجرة، داعرة، وإذا ما انتقى الشاعر لها قوافيا غريبة كانت وحشية النزعة. حتى لو نسجها كبار الشعراء.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى