أدب

الشاعر يعشق المكان كعشقه للمرأة

تعقيبي على المقال الإسبوعي للناقد الأكاديمي الجليل أ.د. أحمد فرحات بعنوان “الأماكن كالنساء”

 الشاعر يعشق المكان كعشقه للمرأة

====================

بقلم 

الشاعر.عباس محمود عامر

“مصر”

  خلق الله الكون ليكون مكانا للإنسان .. يتعايش فيه بكل النعم التي أنعم الله عليه بها ..

وكينونة المكان ذكرت في القرآن كما قال الله تعالى في سورة يوسف : (وقال الذي اشتراه من مصر لأمرأَته أَكرمي مثواه…) .

جعل الله الإنسان يولد برأسه.. ويكون مسقط رأسه هو مكان ميلاده .. هذا المكان له وجودية جغرافية من الهوية والنفحات والطقوس والأحداث .. تمثل ذكريات الإنسان التي عاشها .. فيحمل لهذا المكان كل المشاعر الجميلة ..

وارتباطه به ارتباطا وثيقا .. مثل ارتباط الرجل بالمرأة .. 

يقول الفيلسوف الفرنسي “غاستون باشلار” : “إن البيت الذي ولدنا فيه محفور بشكل مادي في داخلنا .. إنه يصبح مجموعة من العادات العضوية”.

هناك مكان يجلب الخير لصاحبه وهناك مكان آخر كتبت على عتبته التعاسة ..والإنسان يتقبل المكان طبقا لدرجة وعيه وذوقه وثقافته وإحساسه به.

والمكان عند الشاعر له جو خاص .. حيث تستحضر فيه الروح الشاعرة جماليات الشعور الملهمة بعيدا عن صخب الحياة .. لتتساقط حروف القصائد كالغيث يتلقفها القلم .. لذلك يتأثر الشاعر كثيرا بالمكان .. ويعشق هذا المكان كعشقه للمرأة.

نجد الشعب الفلسطيني الأعزل العظيم يتمسك بأبدية المكان ..الذي هو أرضه ووطنه إذ يحمل تاريخه على مر العصور .. رغم حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها من الكيان الصهيوني ..والشاعر الجاد الذي يكون من أصدق الشعراء الذين عبروا بهوية عربية عن مكان يلتصق بأهله..ويتمسك الأهل به وبأصالتهم الممتدة في جذوره التاريخية .. نرى الشاعر محمود درويش في هذه السطور من قصيدته يقول : 

” علقوني على جدائل نخلة

و اشنقوني …فلن أخون النخلة

هذه الأرض لي …و كنت قديما

أحلب النوق راضيا و موله

وطني ليس حزمة من حكايا

وطني ليس قصة أو نشيدا

ليس ضوءا على سوالف فلة

وطني غضبة الغريب على الحزن

و طفل يريد عيدا و قبلة ”

والشاعر الشريف “قتادة ابو عزيز” أمير مكة المكرمة في القرن السادس عشر الميلادي يعبر عن مدى عشقه للمكان الذي هو بلده يقول : 

“بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة 

وأهلي وإن ضنوا على كرام

بلادي وأن هانت علـى عزيزة

ولو أننى أعرى بها وأجـوع

ولى كف ضرغام أصول ببطشها

وأشرى بها بين الـورى وأبيع “

والمكان عند الشاعر يتلخص في أنه المأوى الوجودي الذي يتفاعل فيه بين الملموس والمحسوس حينما يمتزحان في دهاليز الروح اللامرئية ليستشرف المتلقي كينونة المكان في القصيدة .

قلمك دكتورنا الجليل يحفر في كواليس الذاكرة .. ليحدد لنا مكانا يعشقه كل شاعر جاد ترك تراثه في هذا المكان ليظل مؤونة للعقول وذائقة من الجمال.

الشاعر.عباس محمود عامر

“مصر”

=======================

الأماكن كالنساء

بقلم 

أ.د . أحمد فرحات  

تؤدي الأماكن دورا مهما في المشهد الثقافي المعاصر، ولا نبالغ إذا قلنا في القديم أيضا، ففي القصائد القديمة نراجع صدى الأطلال لدى الشعراء الجاهليين، سندرك للتو أننا أمام أماكن ليست كالأماكن المعتادة. وربما زاد من درامية المشهد الأطلالي أن الشعراء قدسوا هذه الأماكن، وغدت لهم مصدر سعادة حقيقية، وجينا ارتبط بأعناقهم، ويجب الوفاء به.

لم يكن للعربي القديم سجل يخلد فيه مآثره ومناقبه وأيامه سوى الشعر، ولذا كان الوعاء الذي حفظ مكنون أسرار الشعراء، فكان أكثر الفنون تعبيرا عن الأماكن بمختلف أنواعها وضروبها، صحراوية كانت أم قصورا أم خياما. أما في الحديث فقد غدا المكان مصورا بشكل أدق، وأعرب الروائيون على تفاصيل المكان الهندسية والمجازية والنفسية، وأصبحت الرواية وعاء لحفظ الأماكن.

وقد أجاد الروائيون توظيف المكان في رواياتهم، توظيفا يشي بقيمة المكان وعظمته، وأحيانا لعب المكان دور البطولة الحقيقية في الأعمال الروائية، فليست قصر الشوق والسكرية وبين القصرين وخان الخليلي إلا أبطالا حقيقين، دارت الشخصية في فلك المكان ومداره وارتسمت ملامحها بفضل هذه الأماكن ذات النزعة الشعبية في القاهرة. كما أجاد محمد عبد الحليم عبد الله وصف الريف المصري، وعالج قضاياه ومشكلاته الضرورية، كما في (بعد الغروب)، و(شجرة اللبلاب) حيث صور الحب في قرى مصر.

بعض الأماكن يضفي حيوية على أهله وبعضها يميت الحياة ..

يكتسب المكان في الرواية قيمته الفنية والموضوعية باعتباره وعاء للزمان، حيث يسعى الإنسان من خلالهما ووفق مجموعة من العوامل التي تشكل محيطه النفسي تحقيق شعوره بالتواجد والكيان الفردي الاجتماعي، ويكون المكان نفسه سببلا لنفور الإنسان إذا ما وجد ضيقا في نفسه، وأحس بالرعب فيه، فيبدأ في استشكاف النفس قبل الجسد، وتكمن أهمية المكان وجمالياته في رواية”موت صغير” لمحمد حسن علوان بذكر التفاصيل الدقيقة للمكان ولأهله معا، فذكر التفاصيل الصغيرة يزيد الارتباط بالمكان، وييبقى في ذهنه ووجدانه أطول مدة ممكنة، وإنما تتفاضل الأماكن بذكر التفاصيل. فيقول عن ذلك: “قليلة هي المدن التي تجوز أسوارها أول مرة فتشعر أنها كانت تنتظر وصولك، تلقي على خطواتك الأولى عتابا مشوبا بالحنين وشوقا محفوفا بالرضا. هكذا استقبلتني بغداد وأنا واحد من مئات حملتهم القافلة إلى هنا غير أني شعرت أنها حيتني وحدي تحية المدن السخية للغرباء المتعبين. على ملامحي مذ دخلتها علامات اندهاش تشبه تلك التي ترتسم على الأوجه عندما يعانقك من لا يعرفك. ويحبك من لم يلتقك، ويصفك من لم يرك، تظل الدهشة حاضرة زمنا طويلا حتى تنتهي المدينة من تلقينك دروسها الأولى، كيف تمشي على ضفة دجلة ويبقى قلبك خلف أضلعك لا يجري به النهر؟

كيف تمر بالرصافة دون أن تستوقفك كل نحلة بحكاية جديدة لا تعيدها في اليوم التالي؟ كيف تتجول في أسواق الكرخ دون أن يترك كل عطار وبزاز وصائغ في سمعك قولا لا يفارق ذهنك طيلة النهار لفرط فصاحته وبلاغته وحلاوته؟ أين تجد زهدا كافيا لتوصد باب بيتك كل ليلة في وجه بغداد وتنام؟

وليست التفاصيل فحسب هي إحدى جماليات المكان عند محمد حسن علوان بل تكمن أيضا في درجة الوعي الذي أحسه (ابن عربي) في التمييز بين الأماكن؛ فالأماكن كالنساء بعضها يثبت عتبته، وبعضها ينفر منها الإنسان، وبعضها حافز للحب، وبعضها قاتل له، دون سبب واضح اللهم إلا درجة الوعي الذي يصل إليه ابن عربي نتيجة خبرته وتنقلاته وكثرة رحلاته هنا وهناك، “وهكذا أرادت لنا مكة، بعض الحب لا ينمو في بلاد بعينها، ولا يعيش في بلاد أخرى، وحبنا كان نافورة لا يجري ماؤها إلا في الأندلس، حتى إذا فارقناها انحسر ماؤها حتى يجف تماما في قيظ مكة”.

************

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى