أدب

حينما ترتدي الحداثة تقاليع العبث 

تعقيبي على المقال الإسبوعي للناقد الأكاديمي الجليل أ.د.أحمد فرحات بعنوان “عبث”

حينما ترتدي الحداثة تقاليع العبث 

======================

بقلم 

الشاعر عباس محمود عامر

“مصر

       العبث كان له وجود في العصر الجاهلي .. في كتابة قصائد تذم في الملوك والأمراء وغيرهما .. والخروج عن الأخلاق الحميدة في صياغة غير لائقة . 

والشعر يختلف عن باقي الأجناس الأدبية بجمال الصور التي تأخذ ألوانها من محبرة الإبداع .. مع نفحات العاطفة والغنائية التى تنبع من الإحساس .. كل هذا يجعل من الشعر روحا خلاقة تلامس وجدان المتلقي بكل معانيه .. والشعر لو لم يلمس الإحساس ويتفاعل معه لا يكون شعرا .. 

يتم التجديد في الأجناس الأدبية وخاصة الشعر دون المساس بالهوية و الشاعرية العربية بل يتم التحديث في إطار حديث تطرح فيه أفكارا وصورا جمالية جديدة لها ابهار يبرز صنوف الإبداع بإحساس ملموس ومحسوس لدى المتلقي .

التلاقح الثقافي بين مختلف الثقافات الغربية والعربية .. حينما يتم يجب ألا يمس الهوية ولا الشاعرية العربية بأصولها التاريخية .. ولكن يتم من ناحية أشكال أدبية لتفنيد الظواهر الأدبية .. والشعر الغربي له عاطفته وغنائيته تتماشى مع طبيعة الغرب ومعيشتهم .. لكن حينما نقلده ..نفتقد بلاغة الصور الجمالية وروح الشعر .. وكذلك نفتقد الغنائية والعاطفة لما لهما طبيعة عربية في شعرنا العربي ..فيكون ذلك تقليدا أعمى .. كما أننا لم نعش بلغتنا العربية طبائع الغرب كى نملك غنائية وعاطفة الشعر الغربي .. إلا إذا تخلينا تماما عن هويتنا وشاعريتنا العربية ليكون هذا هو العبث بعينه .

انتشرت ظاهرة العبث الشعري بصورة مفجعة منذ فترة سبعينات القرن وما بعدها تحت ستار التجريب .. و كانت المجلات الأدبية الكبيرة في مصر وفي بعض الدول العربية ترفض مثل هذه النصوص الأدبية.. وكان الناقد الراحل الدكتور.عبد القادر القط في ذلك الوقت رئيسا لتحرير مجلة “إبداع” اشتكى له الشاعر الراحل حلمي سالم والشاعر الراحل عبد المنعم رمضان و الشاعر أمجد ريان لعدم نشر نصوصهم التجريبية في المجلة .. فتفضل مشكورا د.عبد القادر القط بعمل باب خاص لهم بعيدا عن متن المجلة تحت عنوان “تجارب” واستمر هذا الباب مفتوحا لكل النصوص التجريبية .. إلى أن أخذت هذه الظاهرة تسمية جديدة على غرار ما كتبه الشاعر السوري “أدونيس” خلال الفترة التي قام فيها بنقل روح الشعر الغربي إلى الشاعرية العربية تحت ستار الحداثة فكانت (قصيدة النثر) .. ويعرّف أدونيس قصيدة النثر باعتبارها ” كلمات عادية مشحونة بطاقة غامضة ـ شكل يجري فيه الشعر كتيار كهربائي عبر جمل وتراكيب لا وزن لها ظاهريا، ولا عروض ـ عالم متشابك كثيف مجهول غير واضح المعالم” ..بهذا المسمى ظلم أدونيس هذا الشكل الأدبي الجديد الذي اتهمه الكثير من الشعراء والنقاد بالعبث الشعري حينما وصف أحمد عبد المعطي حجازي قصيدة النثر بأنها «القصيدة الخرساء» ودعاها الدكتور أحمد درويش «عصيدة النثر» قاصداً بذلك أنها كائن هلامي يفتقر إلى شكل محدد.. كان يمكن أن تسمي هذه النصوص على سبيل المثال ب “السرد التعبيري” .. وتحتفظ بمكانتها الأدبية كشكل ادبي حداثي له جذوره منذ خليل مطران واحمد زكي ابو شادي .. وحسين عفيف .. مرورا بأدونيس حتى الشاعر اللبناني “أنسي الحاج” الذي قال أن الحداثة هي “ألا أكتب شعراً وألا أكتب شيئاً والحداثة هي أن أخرج من اللغة وهي نحت العالم في ماء الرغبة” ويقول أيضا “الحداثة هي أن أخطئ حقي عندما أكون على حق، وأنا آخذ حقي عندما أكون مخطئاً” .. هذه التجارب دخلت في نطاق العبث لأنها استخدمت في الغالب مصطلح تفجير اللغة وقواعدها من روحها العربية والشعرية .. لتأخذ شكلا غربيا غريبا على العربية وعلى مجتمعنا العربي من خلال النثر.. وطرح مضمون في سطور خالية من روح الشعر ..لكن هذه النصوص لا ننكر أنها تعبر عن أفكار كامنة في ذهن الكاتب .. تطرح فلسفته في الحياة بصيغة نثرية تغلفها ضبابية محببة أو غير محببة حسب ذائقة المتلقي .. وقصيدة النثر لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تكون بديلا عن الشعر العربي .. بل شكلا أدبيا محدثا .. والشكل الأدبي المحدث لا يلغي شكلا آخر سبقه وله تاريخه .. لكن الشعر بصفة عامة يمكن تطويره .. بتغيير المنظومة العروضية حسب ايقاع العصر الذي يكمن في نبض الروح الشاعرة .. التي تلهم الشعر بالإحساس والإبداع .. مع الحفاظ على اللغة الشعرية التي تعبر عن هويتنا العربية فلا نستطيع ان نتخلى عنها .. لأننا حقا لا ننسلخ من أصولنا وفصيلتنا العربية .. كى نمارس الأدب الغربي تحت ستار الحداثة .. لكن الحداثة بإيجاز شديد هي التجديد التلقائي لمسايرة التطور العصري دون المساس بالهوية .

في النهاية .. الهوية والشاعرية العربية لهما بصمة في الكونية .. لم ولن تمحى .. والتحديث يتم في إطار الشكل وليس في روح الجوهر .. كأنك تلبس ثيابا جديدة بقصات حديثة وتظهر (بنيولوكج ) مميز .

أعلم جيدا دكتورنا الجليل اهتمامك وحبك الكبير للغة الشعرية وروح الشعر .. وستظل تدافع عنهما ضد هذا العبث للحفاظ على الفصيلة العربية .. حفظك الله ورعاك وأكرمك .

الشاعر.عباس محمود عامر

“مصر”

===================

عبث

بقلم 

أ.د.أحمدفرحات 

  

من الناس من يحب أن يساير الآداب الغربية، سواء كانت على صواب أو خطأ فكري أو عقائدي أو حتى أخلاقي، فإذا مال القوم مالوا معهم، وإن اعتدلوا اعتدلوا معهم، ظنا منهم أن الغرب يأتي بالحق المبين، وأن ثقافتنا العربية وأدبنا العرب خلو من كل شيء.

ومن النقاد من ينظر إلى تزيين بحثه العلمي بأسماء أعلام ومراجع أجنبية ليثبت لنا أنه واع بكل جديد في الأدب والفكر، بل والأدهى فهناك من يلوي أعناق الأفكار العربية ليطوعها وفقا لما ذهب إليه القوم.

ظهر العبث في أوروبا نتيجة انعزال بعض الأدباء وتمردهم على واقعهم فمالوا إلى اللامعقول ومن ثم التمرد على أزماتهم النفسية جراء الحروب العالمية المدمرة.

أما في أدبنا العربي فثمة وشائج بينه وبين المفهوم الغربي وربما كان قبل أن يعرف الغربيون العبث، ومن ذلك ما نظمه النابغة الذبياني في امرأة النعمان بن المنذر متغزلا في جمالها بعد فرغ النابغة من مجلس النعمان ولم يبق إلا هما وأراد الانصراف، وهو على حافة الباب التقى بامرأة النعمان الجميلة، وكانت ظنت أن المجلس قد انتهى، فارتدت زيا شفيفا، أو لم ترتد إلا النصيف ليغطي جسدها العاري، فالتقت بالنابغة أمام عيني النعمان، فأقسم النعمان أن يكتب النابغة في هذا المشهد العبثي، فكتب:

سَقَطَ النَصيفُ وَلَم تُرِد إِسقاطَهُ فَتَناوَلَتهُ وَاِتَّقَتنا بِاليَدِ

لَو أَنَّها عَرَضَت لِأَشمَطَ راهِبٍ عَبَدَ الإِلَهِ صَرورَةٍ مُتَعَبِّدِ

لَرَنا لِبَهجَتِها وَحُسنِ حَديثِها وَلَخالَهُ رُشداً وَإِن لَم يَرشُدِ

بِتَكَلُّمٍ لَو تَستَطيعُ سَماعَهُ لَدَنَت لَهُ أَروى الهِضابِ الصُخَّدِ

وَبِفاحِمٍ رَجلٍ أَثيثٍ نَبتُهُ كَالكَرمِ مالَ عَلى الدِعامِ المُسنَدِ

فَإِذا لَمَستَ لَمَستَ أَجثَمَ جاثِماً مُتَحَيِّزاً بِمَكانِهِ مِلءَ اليَدِ

وَإِذا طَعَنتَ طَعَنتَ في مُشَهدِفٍ رابي المَجَسَّةِ بِالعَبيرِ مُقَرمَدِ

وَإِذا نَزَعتَ نَزَعتَ عَن مُستَحصِفٍ نَزعَ الحَزَوَّرِ بِالرَشاءِ المُحصَدِ

وَإِذا يَعَضُّ تَشُدُّهُ أَعضائُهُ عَضَّ الكَبيرِ مِنَ الرِجالِ الأَدرَدِ

ولا يخفى على القارئ فحش النابغة في وصفه لزوجة النعمان المتجردة من ثيابها، وبدت سوأتها في شعره وصفا حسيا ينم عن إيروسية لم نعهدها في أدبنا العربي برمته.

المشهد العبثي الآخر في أدبنا العربي جاء على لسان عمر بن أبي ربيعة في عصر قريب من عصر النبوة، حيث طالع عمر نساء المدينة مطالعة الأزواج لزوجاتهم، وكان يتخفى في زي امرأة ليصل بسهولة إلى نساء بني عصره، ويتغزل فيهن غزلا فاحشا، فهو تام الأداة للغزل ومصاحبة الحسان، وقد تواترت الأنباء بمطارحاته الغرامية طوال أيام الشباب، كان ينتظر أيام الحج ، ليلقى الحسان القادمات من العراق والشام واليمن، أو يتعرض لهن في الطواف.

============

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى