الخبير التربوي الدكتور ناصر الجندي يكتب “أزمة الثانوية العامة: كشف المستور وإعادة التفكير” (11)
وسائل الغش الحديثة: أزمة أخلاق أم نتيجة نظام فاشل؟
بقلم الخبير التربوي الدكتور ناصر الجندي
حين تصبح الامتحانات حرباً!
لم تعد قاعات الامتحانات في الثانوية العامة مجرد ساحات لقياس التحصيل الدراسي، بل تحولت في كثير من الأحيان إلى ميادين لحرب خفية تُستخدم فيها أحدث الوسائل التكنولوجية، وتُدار عبر شبكات منسقة من الغش الجماعي، وكأننا بإزاء “مافيا تعليمية”. مشاهد لا تليق بمؤسسة تربوية، وأسئلة تؤرق ضمير المجتمع: هل نحن أمام أزمة أخلاقية حادة، أم أن الغش هو أحد أعراض فشل هيكلي في النظام التعليمي نفسه؟
أولاً: الغش في ثوبه الحديث
لم يعد الغش مقتصراً على الورقة الصغيرة المطوية (“برشامة”)، بل أصبح صناعة كاملة تشمل:
• سماعات دقيقة للغاية توضع داخل الأذن وتُدار من خارج اللجنة.
• نظارات أو أقلام مزوّدة بكاميرات تبث ورقة الأسئلة فور استلامها.
• مجموعات على تطبيقات مثل تليغرام وواتساب تتداول فيها الإجابات لحظة بلحظة.
• شخصيات “خبيرة” في الحل عن بُعد تبيع خدماتها مقابل المال.
إننا لا نتحدث فقط عن محاولات فردية، بل عن منظومة متكاملة، تديرها عقول وتستثمر فيها أموال، وتخترق حتى أجهزة الرقابة الرسمية أحياناً.
ثانياً: بين الأخلاق والنظام… من المسؤول حقاً؟
حين نتحدث عن الغش، فإننا غالباً ما نلوم الطالب، ونصوّره وكأنه الوحش الوحيد في القصة. لكن هل يمكن لأخلاق طالب لم يتجاوز السابعة عشرة أن تنهار بهذا الشكل دون مساهمة البيئة المحيطة؟
• الأسرة التي تضغط من أجل مجموع مرتفع مهما كان الثمن.
• المدرسون الخصوصيون الذين يُسرب بعضهم الامتحانات أو يساعدون تلاميذهم مقابل مبالغ مالية.
• الثقافة العامة التي تُمجّد الدرجات لا الفهم، والشهادات لا المهارات.
• المنظومة التعليمية نفسها التي تجعل من ورقة الامتحان الوحيدة حكماً فاصلاً في مصير شاب أو فتاة.
نحن، إذن، أمام بيئة تدفع الطالب دفعاً نحو الغش، وتُقنعه أن هذا الخيار ليس فقط “منقذاً”، بل أحياناً “ذكاءً اجتماعياً”.
ثالثاً: عندما يصبح الغش وسيلة نجاة
الطالب الذي يغش ليس دائماً فاسداً أو معدوم الضمير، بل قد يكون:
• خائفاً من خيبة أمل عائلته.
• فاقد الثقة في قدرته الحقيقية بسبب ضعف تعليمي مزمن.
• ضحية مقارنة ظالمة بنماذج مثالية خيالية.
• مقتنعاً أن الجميع يفعل ذلك، فلماذا يُستثنى هو؟
وهنا يظهر عمق المشكلة: الغش لم يعد فعلاً خارجاً عن المألوف، بل أصبح لدى البعض “آلية تأقلم” مع ضغط غير محتمل، في نظام لا يرحم.
رابعاً: هل الحل أمني أم تربوي؟
ما تفعله وزارة التعليم في مواجهة الغش الحديث يشبه ما تفعله الشرطة في مواجهة الجريمة: كاميرات، مراقبة إلكترونية، لجان خاصة… وهي جهود مشكورة، لكنها تعالج النتائج لا الأسباب.
فالمطلوب ليس فقط ردع الغشاش، بل إعادة بناء الإيمان بالعدالة والجدوى في التعليم نفسه.
كيف؟
• بتقليل الوزن المبالغ فيه لامتحان الثانوية العامة.
• بتعدد أدوات التقييم (بحوث، مشروعات، أنشطة).
• بإعادة الاعتبار للتعليم الحكومي الرسمي.
• بزرع قيم النزاهة والمنافسة العادلة في مراحل التعليم المبكرة.
خامساً: نحو خطاب مجتمعي جديد
يجب أن يتوقف المجتمع عن تحميل الطالب وحده مسؤولية الغش، وأن يعترف بأننا أمام خلل جماعي في الأخلاق والثقافة والسياسات التعليمية.
يجب أن ننتقل من خطاب التخوين إلى خطاب الفهم، من الغضب إلى التحليل، ومن العقوبة إلى الوقاية.
هل نجرؤ على إعادة تعريف النجاح؟
في النهاية، الغش في الامتحانات ليس سوى مرآة تعكس تناقضاتنا، وخلل منظومتنا التعليمية، وثقافتنا التي اختزلت النجاح في “درجة” لا في “قيمة”.
ولذلك فإن السؤال الحقيقي ليس فقط: لماذا يغش الطلاب؟
بل: لماذا فقدوا الإيمان بأن الجهد الحقيقي يمكن أن يُكافأ؟
حين نجيب عن هذا السؤال، نكون قد بدأنا أول خطوة في إصلاح لا تكنولوجيا فيه، بل ضمير.
ولا كاميرات فيه، بل قناعة.
ولا لجان خاصة، بل مجتمع يُعيد للعلم معناه، وللنزاهة مكانتها.