دين و دنيا

مع كتاب الله ج10 بقلم الشيخ موسى الهلالى

ويدل له ما ثبت في “صحيح البخاري” وغيره من حديث أبي بكر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن فارسا ملكوا ابنة كسرى قال: “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”.
الثالث: من شروط الإمام الأعظم كونه حرا. فلا يجوز أن يكون عبدا، ولا خلاف في هذا بين العلماء.
فإن قيل: ورد في الصحيح ما يدل على جواز إمامة العبد. فقد أخرج البخاري في “صحيحه” من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة”.
ولمسلم من حديث أم الحصين: اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله.
ولمسلم أيضا من حديث أبي ذر رضي الله عنه أوصاني خليلي أن أطيع وأسمع، وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف. فالجواب من أوجه:
الأول: أنه قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود؛ فإطلاق العبد الحبشي لأجل المبالغة في الأمر بالطاعة، وإن كان لا يتصور شرعا أن يلي ذلك، ذكر ابن حجر هذا الجواب عن الخطابي، ويشبه هذا الوجه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [43/81] على أحد التفسيرات.
الوجه الثاني: أن المراد باستعمال العبد الحبشي أن يكون مؤمرا من جهة الإمام الأعظم على بعض البلاد وهو أظهرها، فليس هو الإمام الأعظم.
الوجه الثالث: أن يكون أطلق عليه اسم العبد؛ نظرا لاتصافه بذلك سابقا مع أنه وقت التولية حر، ونظيره إطلاق اليتم على البالغ باعتبار اتصافه به سابقا في قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} الآية [4/2]، وهذا كله فيما يكون بطريق الاختيار. أما لو تغلب عبد حقيقة بالقوة فإن طاعته تجب؛ إخمادا للفتنة وصونا للدماء ما لم يأمر بمعصية كما تقدمت الإشارة إليه.
والمراد بالزبيبة في هذا الحديث، واحدة الزبيب المأكول المعروف، الكائن من العنب إذا جف، والمقصود من التشبيه: التحقير وتقبيح الصورة؛ لأن السمع والطاعة إذا وجبا لمن كان كذلك دل ذلك على الوجوب على كل حال إلا في المعصية كما
يأتي ويشبه قوله صلى الله عليه وسلم:”كأنه زبيبة”. قول الشاعر يهجو شخصا أسود:
دنس الثياب كأن فروة رأسه غرست فأنبت جانباها فلفلا
الرابع: من شروطه أن يكون بالغا. فلا تجوز إمامة الصبي إجماعا لعدم قدرته على القيام بأعباء الخلافة.
الخامس: أن يكون عاقلا فلا تجوز إمامة المجنون ولا المعتوه، وهذا لا نزاع فيه.
السادس: أن يكون عدلا فلا تجوز إمامة فاسق، واستدل عليه بعض العلماء بقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} الآية [2/124]، ويدخل في اشتراط العدالة اشتراط الإسلام؛ لأن العدل لا يكون غير مسلم.
السابع: أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين، مجتهدا يمكنه الاستغناء عن استفتاء غيره في الحوادث.
الثامن: أن يكون سليم الأعضاء غير زمن ولا أعمى ونحو ذلك، ويدل لهذين الشرطين الأخيرين، أعني: العلم وسلامة الجسم قوله تعالى في طالوت: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [2/247].
التاسع: أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب، وتدبير الجيوش، وسد الثغور، وحماية بيضة المسلمين، وردع الأمة، والانتقام من الظالم، والأخذ للمظلوم. كما قال لقيط الإيادي: [البسيط]
وقلدوا أمركم لله دركم رحب الذراع بأمر الحرب مطلعا
العاشر: أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود، ولا فزع من ضرب الرقاب، ولا قطع الأعضاء، ويدل ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن الإمام لا بد أن يكون كذلك. قاله القرطبي.
مسـائــل:
الأولى: إذا طرأ على الإمام الأعظم فسق أو دعوة إلى بدعة. هل يكون ذلك
سببا لعزله والقيام عليه أو لا ؟
قال بعض العلماء: إذا صار فاسقا أو داعيا إلى بدعة جاز القيام عليه لخلعه، والتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا يجوز القيام عليه لخلعه إلا إذا ارتكب كفرا بواحا عليه من الله برهان.
فقد أخرج الشيخان في “صحيحيهما”، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: “بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله”. قال:”إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان”.
وفي “صحيح مسلم”، من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم” قالوا: قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك ؟ قال:”لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، إلا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة”.
وفي “صحيح مسلم”، أيضا: من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف بريء، ومن أنكر سلم، ولكن من رضى وتابع”. قالوا: يا رسول الله أفلا نقاتلهم ؟ قال:” لا ما صلوا”.
وأخرج الشيخان في “صحيحيهما” من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:”قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت، إلا مات ميتة جاهلية”.
وأخرج مسلم في “صحيحه”، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:”من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”، والأحاديث في هذا كثيرة.
فهذه النصوص تدل على منع القيام عليه، ولو كان مرتكبا لما لا يجوز،إلا إذا ارتكب الكفر الصريح الذي قام البرهان الشرعي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أنه
– كفر بواح، أي: ظاهر باد لا لبس فيه.
وقد دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول: بخلق القرآن وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة، ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك. ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل الخلافة، فأبطل المحنة، وأمر بإظهار السنة.
واعلم أنه أجمع جميع المسلمين على أنه لا طاعة لإمام ولا غيره في معصية الله تعالى. وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا لبس فيها ولا مطعن، كحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة” أخرجه الشيخان وأبو داود.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في السرية الذين أمرهم أميرهم أن يدخلوا في النار: “لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا؛ إنما الطاعة في المعروف”. وفي الكتاب العزيز: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [60/12].
المسألة الثانية: هل يجوز نصب خليفتين كلاهما مستقل دون الآخر ؟. في ذلك ثلاثة أقوال:
الأول: قول الكرامية بجواز ذلك مطلقا محتجين بأن عليا ومعاوية كانا إمامين واجبي الطاعة كلاهما على من معه، وبأن ذلك يؤدي إلى كون كل واحد منهما أقوم بما لديه وأضبط لما يليه.
وبأنه لما جاز بعث نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة كانت الإمامة أولى.
القول الثاني: قول جماهير العلماء من المسلمين: أنه لا يجوز تعدد الإمام الأعظم، بل يجب كونه واحدا، وأن لا يتولى على قطر من الأقطار إلا أمراؤه المولون من قبله، محتجين بما أخرجه مسلم في “صحيحه” من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما”.
ولمسلم أيضا: من حديث عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى