
الخبير التربوي الدكتور ناصر الجندي يكتب “أزمة الثانوية العامة: كشف المستور وإعادة التفكير” (27)
أصوات من الهامش: شهادات الطلاب المهمشين والمنسيين
بقلم الخبير التربوي الدكتور ناصر الجندي
حين يتحدث من لا يُسمع
في كل موسم ثانوية عامة، تتصدر المشهد صور الأوائل، وتصريحات المسؤولين، وتقارير المجاميع والتنسيق. لكن خلف الكواليس، في الأحياء الفقيرة، والقرى البعيدة، والمدارس المنسية، هناك طلاب لا تُسلَّط عليهم الأضواء، ولا تُسمَع أصواتهم، ولا تُحتسَب آلامهم. إنهم “طلاب الهامش” الذين خاضوا المعركة نفسها، لكن بأسلحة أقل، وفرص أضعف، وأحلام موؤودة. هذا المقال محاولة لسماعهم، لا بالنيابة عنهم، بل من خلال شهاداتهم هم أنفسهم.
شهادة 1: “ما عنديش نت… وبيقولولي ذاكر أونلاين”
فاطمة – طالبة من إحدى قرى الصعيد
“من أولى ثانوي بيقولوا لنا هتتعلموا على التابلت. إحنا حتى ما عندناش شبكة في البيت. كنت بذاكر من الكتب القديمة، وأسأل زمايلي اللي معاهم دروس خصوصية. يوم الامتحان، قالولي: ‘أنتِ مش متابعة التطورات؟’
إزاي أتابع وأنا ما عنديش وسيلة؟!” فاطمة ليست حالة فردية، بل نموذج لعشرات الآلاف من الطلاب الذين أُقصوا رقميًا من نظام يفترض المساواة، لكنه يغضّ الطرف عن فجوة البنية التحتية.
شهادة 2: “أنا طالب دمج… محدش فهمني”
أحمد – طالب من ذوي صعوبات التعلم
“أنا باكتب ببطء، وبقرأ بصعوبة. المفروض يكون لي امتحانات مناسبة لحالتي. لكن المدرسة مش مؤهلة، واللجنة ما كانتش مستعدة. خرجت من كل امتحان مكسور. مش لأنّي مش مذاكر، لكن لأن محدش قدر يراعيني.” هؤلاء الطلاب يُفترض أنهم تحت مظلة “الدمج”، لكن الواقع أن دمجهم شكلي فقط. لا تدريب كافٍ للمعلمين، ولا تنسيق بين الوزارات، ولا اهتمام حقيقي بإعطاء كل طالب فرصته العادلة.
شهادة 3: “المدرسة ما فتحتش غير يومين في الأسبوع”
محمود – طالب من مدرسة حكومية مزدحمة في حي شعبي
“الدروس الخصوصية كانت إلزامية، مش اختيارية. اللي ما بيحضرش بيتقال له: مالكش مكان هنا.
أنا اشتغلت في ورشة جنب الدراسة عشان أقدر أدفع تمن درسين.
وفي الآخر جالي مجموع ما يدخلنيش أي حاجة.” القضية هنا ليست فقط اقتصادية، بل مؤسسية. مدرسة لا تقوم بدورها، ونظام يترك الطالب فريسة للخصخصة المقنّعة، دون حماية أو بدائل.
شهادة 4: “أنا لاجئ… ومحدش بيعترف إني طالب زَيّي زَيّ الباقي”
سارة – طالبة لاجئة مقيمة في مصر
“دخلت ثانوية عامة زي بقية زميلاتي، بس طول الوقت كنت حاسّة إني دخيلة.
لا دعم نفسي، ولا مرشد اجتماعي، ولا حتى إجراءات واضحة لو حبيت أكمل بعد كده.
كأني في سباق مش مسموح لي أكسب فيه.” اللاجئون، وأبناء الجنسيات الأخرى، والطلاب من خلفيات ثقافية متعددة، يُعاملون داخل النظام كـ”حالات خاصة”، لا كأصحاب حق في تعليم كريم ومتكافئ.
شهادة 5: “أنا من مدرسة تعليم فني… محدش سأل عن مستقبلي”
ياسر – طالب من مدرسة صناعية
“أنا ذاكرت، واشتغلت، واتدربت، وكنت متفوق. لكن ما لقيتش حد يهتم. لا إعلام، ولا فرص، ولا حتى احترام بسيط من الناس. تحس إنك طول الوقت في الضل، محدش شايفك.” طلاب التعليم الفني هم الظل الأكبر في أزمة التعليم. لا يُذكرون في الإعلام، ولا في استراتيجيات التطوير، وكأنهم شريحة لا تستحق أن تحلم.
ما الذي تقوله هذه الأصوات؟
هذه الشهادات تكشف عن نظام لا يسمع سوى من يرفع صوته في العاصمة. نظام يفترض المساواة، لكنه في الحقيقة ينتج طبقية تعليمية صامتة. ولعل أكبر ما تكشفه هذه الأصوات هو أننا لا نملك “نظامًا واحدًا”، بل أنظمة متعددة بحسب:
• المكان،
• الطبقة،
• القدرة،
• والجنسية.
ما الحل؟ كيف نعيد المركز للهامش؟
1. اعتراف رسمي بعدم تكافؤ الفرص كخطوة أولى لأي إصلاح.
2. سياسات تعليمية موجهة للفئات المهمشة، لا تُصمم من المكاتب بل من الميدان.
3. استثمارات حقيقية في البنية التحتية الرقمية والإنسانية في القرى والمناطق النائية.
4. تدريب المعلمين على التنوع والاحتياجات الخاصة، لا على الحفظ والتلقين.
5. فتح قنوات دائمة لسماع الطلاب المهمشين ومشاركتهم في التقييم والتخطيط.
ما لا يُرى، لا يُصلَح
الوجع الذي لا يُسمع، لا يُعالج. والطلاب الذين لا يصل صوتهم إلى السياسات، لن تصل إليهم العدالة. في كل مرة ننشغل فيها بمجموع الأوائل، وننسى الذين خرجوا مكسورين من المعركة، نُعيد إنتاج الظلم نفسه. ربما آن الأوان أن نتوقف عن ترديد صوت المركز، ونُصغي بصدق لصوت الهامش… ففيه الحقيقة، وفيه الإمكانية الأولى للعدل.