
الخبير التربوي الدكتور ناصر الجندي يكتب “أزمة الثانوية العامة: كشف المستور وإعادة التفكير” (21)
حكايات من قلب اللجان: شهادات طلاب وأسر
بقلم الخبير التربوي الدكتور ناصر الجندي
حين تتكلم التجربة
في زحام الأرقام، وتحليلات السياسات، وصخب التصريحات الرسمية، يغيب الصوت الأهم: صوت من يعيش التجربة بكل تفاصيلها الدقيقة، بأعصاب مشدودة وقلوب مرتجفة ودموع تذرف في صمت. في هذا المقال، نفتح نافذة على حكايات من قلب اللجان، نسجها طلاب وأسرهم، تروي ما لا تقوله التصريحات ولا تعبّر عنه الإحصاءات.
صوت الطالب: خلف كل مقعد قصة
1. كريم (طالب علمي): “الوقت كان بيجري والورق مش بيساعد”
يحكي كريم، طالب في شعبة علمي رياضة، كيف دخل لجنة الفيزياء وهو يعرف تمامًا أنه أمام امتحان عمره. يقول: “أنا مذاكر كويس، والحمد لله فاهم، بس الورقة كانت مصممة تحبطك. الوقت مش مكفي، والأسئلة متفصلة علشان تشتتك.” كريم لم يبكِ، لكنه خرج محبطًا، شعر أن جهده لا يُقابل بامتحان منصف، بل بمعركة نفسية.
2. سلمى (طالبة أدبي): “أنا مش غبية… أنا بس مش آلة”
سلمى، طالبة متفوقة في الأدبي، تقول: “السؤال في الفلسفة كان محتاج تفكير، مش حفظ. بس مش ده اللي خلاني أتعب. اللي كسرني نظرة المراقبة اللي شافتني باتنفس وقالتلي: مركزة كده ليه؟” تضيف بسخرية مريرة: “عايزانا نحل من غير ما نبان أننا بنفكر!”
صوت الأسرة: قلق لا يُوصف
3. أم يوسف: “ابني كان نايم وهو صاحي”
تحكي أم يوسف، والدمع في عينيها: “يوسف بطل يضحك، بطل يخرج، بطل ينام. طول الليل صاحي، وعينه مفتوحة بس دماغه مش معانا. أنا كنت خايفة عليه يضيع مننا، مش بسبب الفشل، بس من الضغط اللي عليه.” تصف أم يوسف الأيام الأخيرة قبل الامتحان بأنها كانت “ساحة حرب”، ليس فيها إلا الخوف من اللحظة القادمة.
4. والد مريم: “الدروس كانت شطّارة، واللجنة كانت صدمة”
يقول والد مريم: “دفعت اللي ورايا واللي قدامي في دروس، عشان بنتي تدخل اللجنة وهي حافظة كل حاجة. لكنها خرجت بتبكي، بتقول: بابا، اللي امتحنونا مش هما اللي علّمونا!” يردف قائلًا: “هو احنا بنعدهم للنجاح ولا للخداع؟”
حكايات الغش: بين غضب المتفوقين وصمت العاجزين
5. طالب مجهول: “اللي غش نجح، وأنا اتعاقبت لأني اجتهدت”
شاب رفض ذكر اسمه قال: “أنا ما غشيتش، وكنت بذاكر من قلبى. بس اللي غش جنب مني طلع درجته أعلى. أنا حسيت إني اتحسبت على صدقي، مش على مجهدي.” يضيف: “لما الدولة تبقى عاجزة عن ضبط اللجنة، الطالب بيتعلم إن الشطارة مش في الاجتهاد، الشطارة في الموبايل.”
عندما يُصبح النجاح سلاحًا ذو حدين
6. نورهان: “فرحت لما جالي ٩٨٪، بس كنت خايفة من الحقد”
نورهان، واحدة من أوائل الثانوية، تحكي: “لما ظهرت النتيجة، فرحت، بس حسيت بالخوف. الناس بتقول الأوائل غشوا، وإن كله تسريب. بقيت حاسة إن فرحتي مش كاملة.” النجاح الذي انتظرته سنوات، صار عبئًا نفسيًا جديدًا.
ماذا تعني هذه الحكايات؟
هذه ليست مجرد قصص شخصية، بل شواهد حية على أزمة ممتدة في منظومة الثانوية العامة، حيث تُختزل الإنسانية في درجات، وتُختبر القيم في مواقف عصيبة. إنها صرخة تدعونا إلى إعادة التفكير في فلسفة التقييم، وأسلوب الامتحانات، ونظرتنا كلها للتعليم.
شهادات لا يجب أن تُنسى
إذا كنا نبحث عن إصلاح حقيقي، فلا بد أن نبدأ من هنا، من أصوات الطلاب وأسرهم. فالإصلاح لا يُبنى فقط على قوانين وتشريعات، بل على فهم عميق للواقع المعيشي والنفسي لمن هم في قلب المعركة. دعونا لا ننسى أن وراء كل ورقة إجابة، إنسان.