
الخبير التربوي الدكتور ناصر الجندي يكتب “أزمة الثانوية العامة: كشف المستور وإعادة التفكير” (19)
الشهادة أم المهارة؟ نظرة نحو المستقبل
بقلم الخبير التربوي الدكتور ناصر الجندي
سؤال لا نجرؤ على طرحه
في مجتمعاتنا، يُعامل الطالب الحاصل على “شهادة” باحترام أكبر من صاحب المهارة، مهما كانت هذه المهارة نادرة أو مفيدة. وفي الوقت نفسه، يزداد عدد خريجي الجامعات العاطلين، فيما تعاني الأسواق من نقص في الحرفيين والتقنيين والمتخصصين العمليين. هنا، يفرض السؤال نفسه بقوة:
هل لا تزال الشهادة الجامعية هي طريق النجاح الحقيقي؟ أم أن العالم يتغير باتجاه جديد تقوده المهارة؟
أولًا: الموروث الاجتماعي… الشهادة أولًا
نشأنا على قناعة راسخة أن:
• الشهادة الجامعية = احترام + وظيفة + مكانة.
• التعليم الفني أو المهارات اليدوية = طبقة أقل أو مخرج اضطراري.
هذا التصور تكرّس في الوعي الجمعي، فصارت العائلات تضغط بكل ما أوتيت من موارد لأجل شهادة “عليا”، حتى وإن كانت في تخصص لا يطلبه السوق، أو لا يناسب قدرات الطالب.
وهكذا، صارت الورقة أهم من القدرة الحقيقية.
ثانيًا: العالم يتغير… والمهارة تفرض نفسها
بينما نُصر نحن على عبادة الشهادة، تغيرت خريطة العالم:
• كبريات الشركات العالمية (مثل Google وApple) لم تعد تشترط شهادة جامعية، بل تختبر “ما تستطيع أن تفعله فعليًا”.
• مهن جديدة ظهرت لا تتطلب دراسة أكاديمية تقليدية: البرمجة، تحليل البيانات، التصميم، التسويق الرقمي، العمل الحر…
• منصات تعليمية عالمية تقدم محتوى احترافيًا يكفي لتكوين مهارة متخصصة (مثل Coursera، Udemy، edX).
• حتى في المهن التقليدية، أصبح التميز مرهونًا بالإتقان العملي لا بالتخرج فقط.
باختصار: العالم لم يعد يسأل: ما شهادتك؟ بل: ماذا يمكنك أن تُنجز؟
ثالثًا: الثانوي العام كمعبر قسري
الثانوية العامة في مصر والعالم العربي هي بوابة وحيدة تقريبًا نحو “الشهادة الجامعية”، مما يجعلها:
• مسارًا إجباريًا حتى لمن لا يرغب أو لا يناسبه هذا الطريق.
• مرحلة يتم فيها تجاهل كل ما عدا التحصيل النظري، حتى لو امتلك الطالب موهبة عملية فذة.
• “غربالًا” يقصي من لا يستطيع مجاراة الحفظ والتلقين، حتى لو كان مبدعًا في الميدان.
وهنا نخسر المئات من الطاقات والمهارات كل عام، فقط لأنهم لم ينجحوا في اختبار “الورقة”.
رابعًا: تجارب عالمية… الشهادة ليست كل شيء
في دول مثل ألمانيا، سويسرا، سنغافورة، وفنلندا، يتم:
• دمج التعليم المهني والفني في النظام المدرسي مبكرًا.
• ربط المهارة بسوق العمل الحقيقي عبر تدريب وتوظيف حقيقي خلال الدراسة.
• منح مسارات بديلة عن الجامعة، لكنها متقدمة ومرموقة ومبنية على الكفاءة.
• تشجيع الطلاب على اختيار مسار يناسب قدراتهم ومواهبهم، لا فقط مجموعهم في الامتحانات.
وهكذا، تضع تلك الدول المهارة بجوار الشهادة، لا تحتها.
خامسًا: ماذا عن المستقبل؟ من يحتاج إلى من؟
• السوق اليوم لا يهتم كثيرًا بما “تعرفت عليه نظريًا”، بل بما “تتقنه عمليًا”.
• الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا يتطلبان تعلمًا مرنًا سريعًا ومتجددًا، لا فقط شهادة قديمة.
• العالم الرقمي يمنح الأفراد فرصة بناء حياة مهنية بدون المرور بالجامعة (مطورون، مصممون، يوتيوبرز، فريلانسرز…).
وهذا لا يعني أن الشهادة الجامعية بلا قيمة، لكنها لم تعد كافية، وربما لم تعد ضرورية في كل الحالات.
سادسًا: من أجل عقلية جديدة في التعليم
ما نحتاجه هو تحول جذري في النظرة إلى التعليم والتقييم:
1. احترام التعليم الفني والمهني، ليس كمخرج اضطراري بل كمسار متكامل.
2. إدماج المهارات العملية والرقمية في المراحل الدراسية مبكرًا.
3. توسيع فرص التعلم غير التقليدي، والاعتراف بشهاداته.
4. إعادة تعريف النجاح ليشمل التميز في المهارة، لا فقط الامتحان النظري.
5. تشجيع الأسر على اكتشاف ميول أبنائهم الحقيقية، بدلًا من دفعهم في مسار موحّد.
التغيير يبدأ من السؤال
حين نسأل أبناءنا: “مجموعك كام؟” بدلًا من “بتحب تعمل إيه؟”،
وحين نقول: “لازم تدخل كلية محترمة”، بدلًا من “اهم حاجة تشتغل حاجة بتحبها”،
فإننا نغرس من البداية أوهام الشهادة ونقتل بذور المهارة.
لكن العالم لن ينتظرنا.
هو يمضي نحو المستقبل، حيث الشهادة مجرد وسيلة،
أما المهارة فهي العملة الذهبية الحقيقية.