
الدكتور ناصر الجندي يكتب “نظريات تربوية غيّرت العالم: من حجر المعلم إلى ذكاء المتعلم” (5)
جون ديوي والتربية التجريبية: حين يصبح الفصل مختبرًا للحياة
بقلم الخبير التربوي الدكتور ناصر الجندي
“إذا علّمنا اليوم كما علّمنا بالأمس، فإننا نسرق من أطفالنا الغد.” جون ديوي
تخيل فصلًا دراسيًا لا يحتوي على الصفوف المستقيمة التي تفصل بين الطلاب، ولا سبورة أمامية يكتب عليها المعلم محتوىً مكررًا، ولا حتى معلم يقف لتلقين المعلومات. بدلاً من ذلك، الأطفال يتحركون بحرية، يصنعون ويختبرون، يناقشون ويتعلمون من خلال التجربة والخطأ. يبدو الأمر كخيال؟ لكن هذه كانت رؤية الفيلسوف التربوي جون ديوي الذي رأى في التعليم عملية حية تتسم بالمرونة والنشاط، وليس مجرد حجرة دراسية جامدة. لقد أحدث ديوي ثورة هادئة قلبت تمامًا المفاهيم التقليدية للتعليم من التلقين إلى التجريب، ومن الحفظ إلى الحياة.
جون ديوي (1859-1952) هو أحد أكثر المفكرين تأثيرًا في تاريخ التعليم الحديث، وكان له دور كبير في تغيير الطريقة التي نفهم بها التعلم، ليجعل من المدرسة مكانًا يختبر فيه الطلاب حياتهم الحقيقية بشكل تفاعلي، مما يساهم في صقل شخصياتهم وتعزيز قدراتهم بشكل عملي بعيدًا عن الطريقة التقليدية في التعليم.
من هو جون ديوي؟
ولد جون ديوي في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1859 في فترة كانت تشهد تحولات ضخمة في العالم الصناعي. هذه التحولات الاقتصادية والاجتماعية ألهمت ديوي للإيمان أن المدارس لا يجب أن تكون مجرد مؤسسات تقليدية لتلقين المعرفة، بل يجب أن تكون مكانًا تتلاقى فيه الحياة الفعلية مع العمليات التعليمية.
كان ديوي ليس فقط مفكرًا نظرية، بل كان أيضًا ممارسًا. فقد أسس مدارس تجريبية لتطبيق أفكاره، كان أبرزها “مدرسة شيكاغو” التي تحولت إلى مختبر حي للتعليم التجريبي. في هذه المدرسة، أتيحت للطلاب الفرصة للتعلم من خلال التجربة، حيث جربوا، ونجحوا، وأخفقوا، وتعلموا من حياتهم اليومية.
النظرية التجريبية في التعليم: المعرفة الحية من خلال التجربة
إن جوهر نظرية ديوي التعليمية هو أن المعرفة لا تكتسب من خلال التلقين أو الحفظ، بل من خلال التجربة المباشرة والاحتكاك بالعالم الحقيقي. اعتقد ديوي أن الطريقة المثلى للتعلم هي أن يختبر الطلاب الواقع بأنفسهم، بحيث يكون التعليم تجربة حية وليست مجرد تكرار لما يقال لهم. في هذا السياق، يعتبر الفصل الدراسي مكانًا لا يتوقف فيه الطلاب عن التجربة والتفاعل مع ما حولهم.
“الفصل الدراسي هو مجتمع مصغر، والمدرسة مختبر للحياة الديمقراطية.” (Dewey, 1916)
هذا يعني أن التعليم يجب أن يكون ذا صلة مباشرة بالحياة اليومية للطلاب، ويجب أن يشارك الطلاب بنشاط في بناء معرفتهم الخاصة، بدلاً من أن يكونوا مجرد متلقين سلبيين للمعلومات.
المبادئ الأساسية لنظرية ديوي في التعليم
1- الخبرة هي المعلم الأول
كان ديوي يؤمن أن الخبرة المباشرة هي السبيل الفعال للتعلم. الأطفال يتعلمون بشكل أفضل عندما يواجهون مواقف حياتية حقيقية، حيث يتفاعلون مع البيئة من حولهم. لا يكفي أن يتم تعليمهم فقط من خلال الكتب أو الدروس التقليدية، بل يجب أن يتمكنوا من المساهمة في صنع المعرفة من خلال تجاربهم الشخصية.
2- حل المشكلات هو أساس التعلم
بالنسبة لديوي، التعلم هو عملية حل المشكلات. عندما يواجه الطالب تحديًا، يبدأ بالتفكير فيه، ثم يحاول تطبيق حلول مختلفة، وبالتالي يتعلم من النجاح والفشل. هذا النوع من التعلم يحفز الإبداع ويشجع التفكير النقدي.
3- المدرسة يجب أن تكون صورة مصغرة للمجتمع
لم يكن ديوي يرى في المدرسة مكانًا للدراسة فقط، بل مكانًا للتفاعل المجتمعي. كان يرى أن المدرسة يجب أن تشبه المجتمع في ممارساته وتفاعلاته اليومية، ويجب أن يكون الطلاب جزءًا من عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بتعليمهم.
4- الديمقراطية في التعليم
بالنسبة لديوي، كان من المهم أن يكون لكل طالب صوت في تحديد مسار تعليمه. كان يؤمن بأن التعليم يجب أن يعزز المبادئ الديمقراطية، حيث يمكن للطلاب التعبير عن آرائهم ومشاركة أفكارهم في بناء بيئة تعليمية تشجع على الحوار والاختلاف.
تطبيق ديوي لفكرته في مدرسة شيكاغو
في “مدرسة شيكاغو”، التي أسسها ديوي عام 1896، قام بتطبيق هذه المبادئ بشكل عملي. في هذه المدرسة، كان الطلاب:
يزرعون الحدائق ويزرعون الطعام كجزء من تعلمهم.
ينفذون مشاريع يدوية ويصممون اختراعات بأنفسهم.
يخرجون في رحلات ميدانية إلى الطبيعة أو إلى الأماكن ذات الصلة بتجاربهم الدراسية.
يكتبون تقارير مستندة إلى تجاربهم الشخصية بدلاً من النسخ من الكتب المدرسية.
لكن الهدف لم يكن تعليم الطلاب كيفية استخدام الأدوات، بل تعليمهم كيفية التفكير من خلال صنع شيء بأنفسهم. كانت هذه الأنشطة تعلمهم كيفية التعامل مع الواقع وتطوير مهارات حل المشكلات، وهذا بدوره يعزز قدراتهم الفكرية والعملية بشكل عميق.
أثر ديوي: ثورة تربوية بصمت
“تعليم ديوي لم يكن صراخًا ضد القديم، بل دعوة لبناء جديد أكثر إنسانية.” (Dewey, 1916)
قد تكون الثورة التي أحدثها ديوي في مجال التعليم قد جاءت بصوت هادئ، لكنها تركت أثراً عميقًا على الطريقة التي نفهم بها التعليم في العصر الحديث. أفكاره كانت حجر الأساس للعديد من الحركات التربوية التي ظهرت بعده، مثل المناهج النشطة والتعليم القائم على المشاريع (Project-Based Learning) والتعليم الديمقراطي.
وقد تأثرت العديد من النظريات التربوية بأفكار ديوي، بما في ذلك فلسفة “مونتيسوري” و”ريجيو إميليا” التي تشترك مع ديوي في التأكيد على أهمية التجربة والحرية في عملية التعلم.
النقد والإعجاب: هل كان ديوي فوضويًا؟
بالرغم من تأثيره العميق، تعرض ديوي للنقد في بداية تطبيق أفكاره. اتهمه البعض بأن مدرسته “فوضوية” وأنها تفتقر إلى النظام، لكنه كان يرد على ذلك بأن الفوضى التي كان يروج لها هي فوضى إبداعية، حيث كان يريد للطلاب أن يختبروا ويتعلموا من خلال تجربتهم الخاصة.
اليوم، أصبح واضحًا من خلال الأبحاث الحديثة أن الطلاب يتذكرون بشكل أفضل ما يفعلونه بأنفسهم أكثر من ما يسمعونه من الآخرين. (Gardner, 1993; Kolb, 1984) وهذا ما يثبت صحة فكرة ديوي حول أهمية التعلم بالتجربة.
اقتباسات خالدة من ديوي
“ليس التعليم استعدادًا للحياة… إنه الحياة نفسها.” — جون ديوي
“نحن لا نتعلم من التجربة… بل نتعلم من التفكير في التجربة.” — جون ديوي
دعوة للحرية والتجريب
لقد علّمنا جون ديوي أن التعليم لا يجب أن يكون عملية مملة من التلقين، بل يجب أن يكون تجربة حية، ديناميكية، ومليئة بالتحديات. علينا أن نمنح الطلاب الفرصة لاستكشاف العالم بأنفسهم، وتعليمهم كيفية التفكير في تجربتهم، وليس فقط تزويدهم بالحقائق.
ما تركه لنا ديوي هو دعوة مستمرة:
اجعلوا من الفصل مكانًا للحرية، لا للحشو.
للتجريب، لا للتلقين.
للحياة، لا للحفظ.
المراجع:
1. Dewey, J. (1916). Democracy and Education: An Introduction to the Philosophy of Education. Macmillan.
2. Gardner, H. (1993). Multiple Intelligences: The Theory in Practice. Basic Books.
3. Kolb, D. A. (1984). Experiential Learning: Experience as the Source of Learning and Development. Prentice-Hall.