اخبار عاجلةكتاب و مقالات

إمبراطورة روسيا الحديدية(كاترين الثانية)

 روعة محسن الدندن/سورية

الجزء الأول
المرأة الكائن الذي خلقه الله ليكون مصدرا لحنان والحب والعطاء وقوة الصبر والعطف
تلك الرقيقة التي تتحول إلى النقيض عندما تجرح بكرامتها
فتصبح أشبه بالوحش ويصعب عليها الغفران وربما يكون الإنتقام فوق توقعات الجميع
فتجدها صابرة وراضية وضعيفة جدا ولكنها تنتفض كالنمرة عندما تجرح حرجا ينال من كرامتها أو يجعلها تشعر أنها أصبحت منتهية الصلاحية بالنسبة لرجال
هذا ما فعله الإمبراطور بطرس الثالث
عندما كان يحتفل بعيد اعتلائه العرش. ودعا إلى قصره في بيترهوف كبار رجالات الدولة والسلك الدبلوماسي. وبينما الجميع يشربون الفودكا ويصخبون كانت الإمبراطورة تقف في ركن منزو ترمق زوجها وقد انحط إلى مائدة في أقصى القاعة الكبرى ومن حوله بضعة صعاليك من خدم القصر يضجون ويتقارعون الكؤوس مع القيصر.. وتحت النظرات المشدوهة من الضيوف وهم يشهدون ما يفعله القيصر صرخت كاترين في زوجها: (مولاي.. إن السفراء ينتظرون تشريفكم فهلا تركت هذه المساخر لحظات لتؤدي ما يقتضيه منك واجب الضيافة مع مدعويك؟).
وبعينين تنطلق منهما شرارات مجنونة حملق فيها القيصر. وفجأة نهض من مقعده وهو يصخب ولايزال قابضا على المقعد ثم رفعه في سرعة وقذف به كاترين المشدوهة. وانطلق من فمه سيل من الشتائم رهيب: (أطبقي فمك أيتها الألمانية الحمقاء.. ما مكانك أنت مني.. أوجعلت من نفسك قيما على قيصر روسيا العظيم؟). وأطبق على القاعة صمت جارف بينما الألفاظ الجارحة تنهال على القيصرة المسكينة وصرخاته تدوي في المكان: (سأعرف يوما كيف أجعلك تقدسين زوجك وتستنجدين من خلف قضبان السجن تطلبين العفو والغفران من سيدك).
وكان جواب كاترين في تحد كبير: (أتحداك أن تجرؤ على فعلها) وانطلق إليها وقد جرد سيفه مهددا ولكنها برغم كل ذلك لم تهتز بل أجابته في هدوء: (إذا كنت تنوي مبارزة فأنا الأخرى في حاجة إلى سيف)… ثم كان بعد ذلك ما كان!
هذه المرأة هي
امبراطورة العصر الذهبي لروسيا القيصرية.
(بالروسية: Екатери́на II Алексе́евна Вели́кая)، الشهيرة باسم كاترين الكبيرة أو كاترين العظيمة (بالروسية: Екатерина II Великая)، هي إحدى أبرز وأهم وأكبر حُكَّام روسيا عبر التاريخ، وأعظم شخصيَّة حكمت البلاد الروسيَّة في التاريخ الحديث، ومن أطول النساء الحاكمات عهدًا، إذ امتدَّ عصرُها من سنة 1762م حتَّى وفاتها سنة 1796م عن عُمرٍ يُناهز 67 سنة، كما أنَّها من بين أشهر النساء الحاكمات عبر التاريخ ومن أعظمهنَّ شأنًا وتأثيرًا. وُلدت في مدينة شتچین بِدُوقيَّة پوميرانیا في مملكة بروسيا، وكان اسمُها ولقبها عند الولادة صوفي فردريك أغسطس ڤون آنهالت زربست دورنبرگ (بالألمانية: Sophie Friederike Auguste von Anhalt-Zerbst-Dornburg)،

ولدت باسم Sophie Augusta سنة 1729 في مدينة تقع على الحدود البولونية الألمانية . خضعت لتربية بروتيستانية متشددة تحت رعاية مربية فرنسية . حاولت والدة كاترين منذ البداية إيجاد موقع قدم لابنتها داخل بلاط الحكم في المانيا من خلال الحفلات الملكية. جذبت كاترين الانتباه رغم صغر سنها حيث أصبحت حديث الكثيرين . هناك تلقت والدة كاترين العظمى نصيحة بأن ترسل لوحات بورتريه لابنتها إلى امبراطورة روسيا إليزابيث التي تبحث عن زوج لابن أختها و وولي عهدها بيتر الثالث. بعد عدة محاولات نجحت الخطة في استرعاء إنتباه إمبراطورة روسيا. و تم استدعاء عائلة كاترين إلى البلاط الروسي لترتيب لقاء بين العروسة الألمانية ذات 14 سنة و ولي عهد روسيا (15 سنة ) .
قبل الزواج كان على كاترين اعتناق المسيحية الأرثوذكسية و إبداء قدرتها على التحدث باللغة الروسية بطلاقة . في صيف سنة 1745 م ثم إحياء حفل الزواج .
لعروس كما قالوا عروس البريد من خلال طريقة الرسائل التي أتمت هذا الزواج
وحملتها العربات إلى تلك الأرض البيضاء وبعد وصولها لروسيا ،
التصقت الفتاة ذات الأربعة عشر عاما بأمها، في المركبة المغطاة بالثلوج. لم يكونا في طريقهما إلى حفل عيد ميلاد عادي، وبينما كانت مجموعة الجياد التي تتصب عرقا تقترب من موسكو. أخذت تلف عبر الأبراج والحصون العجيبة الرائعة. ولابد أن كاترين تساءلت متعجبة، عما عساها تكون هذه الأرض الشاسعة الغامضة التي إدخرهاالغيب لها. وربما كانت تدري من قبل أن إليزابيث، إمبراطورة روسيا، قد إختارت عروسا لإبنها ووريثها الجراند دوق بطرس. لكنه لم يكن في مقدروها أن تحدس أنها، صوفيا أوگستا، الأميرة التي تنتمي إلى دولة ألمانية صغيرة، أنها ستكون ذات يوم بإسم كاترين العظمى، إمبراطورة روسيا، كان لابد من بذل أقصى سرعة للوصول إلى موسكو في الموعد المناسب ، للإشتراك في حفل عيد ميلاد الدوق بطرس.
كاترين والعرش
إن الطموح هو مفتاح شخصية كاترين، ولما وصلت الفتاة إلى موسكو في ربيع 1745، اتضح لها أن زوجها المقبل دميما، عليلا، غبيا. ولم يكن من ذلك النوع من الرجال الذي قد تختاه. لكن الزيجات الملكية في ذلك الوقت كانت إلى أمور السياسة أقرب منها إلى الحب. وبالفعل ألقت بكل أفكار الحياة العائلية خلف ظهرها. وركزت على ما هو أسمى. وقد كتبت في مذكراتها “لم أكن لأهتم ببطرس أبدا، ولكن اهتمامي كان بالتاج الملكي””.
ولكي يرضى عنها الروس الذين كان أملها أن تحكمهم في يوم من الأيام ، اتخذت لنفسها إسم كاترين. وكان هذا الإسم من الأسماء المألوفة في روسيا. كما تعملت اللغة الروسية، واعتنقت المذهب الأرثوذكسي. والأهم من ذلك له، أنها راقت للإمبراطورةإليزابيث الأم وأثرت فيها ، فقد كانت تطيعها في كل أمر. كما كانت الرفيق الدائم المسلي لها. وأحرزت قبولا عظيما لدى البلاط، لحصافتها ولطافة طبعها. وجمعت حولها حلقة من الأصدقاء المعجبين، الذين كانوا على استعداد لتقدم يد العون لها في أي وقت.
وفي يوم عيد الميلاد من عام 1761، توفيت إليزابيث، وأصبح زوج كاترين إمبراطورا. ولكن غباءه خلال شهور حكمه الوجيزة، اكسبه أعداء كثيرين. ولكراهيته زوجته وخوفه منها، كال لها الإتهامات القاسية. وأعلن أنه يود الزواج من غيرها. عندئذ سمحت الفرصة لكاترين ففي يوليو من العام نفسه ، اختطفت بطرس بمعونة أصدقاء لها من البلاط، وأعلنت نفسها إمبراطورة رسمية على روسيا ، وفي قسوة سحقت كل من اعترض طريقها. ولا شك أنها كانت تعلم علم اليقن بمقتل بطرس بعد ذلك بأيام.
كاترين في الحكم
القيصر پطرس الثالث لم يحكم سوى ستة أشهر؛ توفي في 17 يوليو 1762.
لاشك أن كاترين كانت امرأة تثير الذهول والإعجاب. فقد رعت كل نشاط ثقافي وشجعته. بعد أن انتقلت إليها رغبة التعليم، التي اشترك فيها العديد من حكام القرن الثامن عشر، كما كان من بين أصدقائها شخصيات فرنسية من كبار الأدباء والفلاسفة، مثل فولتير و ديدرو. وكانت تمتلك مجموعة ضخمة من اللوحات المصورة، كما أنها كتبت بنفسها مسرحيتين ، وبدأت في تدوين تاريخ روسيا. وبالرغم من ذكائها ، إلا أنها لم تكن بالعقلية المبتكرة الأصيلة. بيد أن النشاط كان أعظم مواهبها، ولكي توفر لنفسه الوقت اللازم لأنشطتها المتعددة، بما فيها الإشراف على جميع شئون الدولة الروسية، اعتادت أن تستيقظ في الساعة الخامسة صباحا، وعندما تحس بالتعب كانت تذرع أرض غرفتها الرخامية جيئة وذهابا حافية القدمين ، لتظل مستيقظة
جُلوسها على العرش
حفل تتويج كاترين الثانية إمبراطورةً على عرش روسيا.
تُوِّجت كاترين على عرش الإمبراطوريَّة الروسيَّة بِصُورةٍ رسميَّةٍ يوم 22 أيلول (سپتمبر) 1762م المُوافق فيه 3 تشرين الأوَّل (أكتوبر) من ذات السنة وفق التقويم اليولياني، في مدينة موسكو،[21] واتخذت لِنفسها لقب «كاترين الثانية». وبعد تتويجها، أصدرت بيانًا رسميًّا تحاملت فيه على زوجها السابق قائلةً أنَّهُ كان عاقد العزم على تغيير المذهب الرسمي لِلدولة من الأرثوذكسيَّة إلى الپروتستانتيَّة بسبب ميله إلى البروسيين، وأنَّهُ كان يُريد السلام معهم بعد أن طمعوا في البلاد وسعوا في خرابها من خلال الدسائس والتجسُّس، كما سمَّت ابنها بولس وليًّا لِلعهد.[22] أدَّى صُعُود كاترين إلى السُلطة عن طريق انقلاب إلى ظُهور بعض الجدال بين بعض القادة والنُبلاء بشأن اعتبارها حاكمةً شرعيَّةً أم مُغتصبة لِلحُكم، لا سيَّما وأنها ليست من آل رومانوڤ القياصرة، بحيثُ لا يُمكن اعتبار فترة حُكمها شرعيَّة إلَّا عند تزامنها مع فترة وصايتها على ابنها بولس حتَّى يبلغ سن الرُشد ويخلف والده. وقد بلغ الأمر ببعض النُبلاء (منهم نيكيتا پانين وآخرون) أن اقترحوا لاحقًا على بُولس القيام بانقلابٍ آخر لِلإطاحة بِوالدته وتنصيبه إمبراطورًا شرعيًّا على عرش آبائه وأجداده، على أنَّهم رغبوا بِتقييد سُلطته وتحويلها إلى ما يُشبه الملكيَّة الدُستوريَّة، لكنَّ شيئًا من هذا بم يحصل، واستمرَّت كاترين تحكم البلاد حتَّى مماتها.[ْ 33] أمرت كاترين بعد تربُّعها على العرش بِصناعة دُرَّة المُجوهرات الإمبراطوريَّة لِآل رومانوڤ، ألا وهو التاج الإمبراطوري الروسي الذي تناقله خُلفائها من بعدها وتُوجوا به جميعًا حتَّى عهد آخر الأباطرة الروس نِقولا الثاني، الذي كان آخر من تُوِّج به.[ْ 34] صُمِّم التاج الجديد على يد الصائغ الفرنسي السويسري إرميَّا پوزيه (بالفرنسية: Jérémie Pauzié) مُستلهمًا شكله من تصاميم التيجان البيزنطيَّة، فجعله من نصفين شبه كُرويين يُمثلُ أحدهما الإمبراطورية الرومانيَّة الغربيَّة والآخر يُمثِّل الإمبراطوريَّة الرومانيَّة الشرقيَّة (البيزنطيَّة)، يفصلُ بينهما إكليلٌ ورقيّ الشكل، وثبَّت الأقسام الثلاثة هذه بِواسطة طوقٍ سُفليّ. رُصِّع التاج بِخمسةٍ وسبعين لؤلؤة و4,936 ألماسةٍ هنديَّةٍ على شكل ورق الغار والسنديان، وهي من رُموز العظمة والسُلطة عند الرومان والإغريق القُدماء، وعلاه ياقوتة زنتها 398.62 قيراط من مجموعة الإمبراطورة الخاصَّة، إلى جانب صليبٍ ألماسيّ. وقد استغرقت فترة العمل على هذا التاج شهران فقط، وبلغت زنته عند الانتهاء تمامًا منه 2.3 كيلوگرامات.[ْ 35] كتبت كاترين الثانية في مُذكراتها تتحدث عن أوضاع الإمبراطوريَّة الروسيَّة عشيَّة تولِّيها العرس، كاشفةً الحالة التعيسة التي كانت تعيشها البلاد ومُعاناة العِباد، وإشراف الدولة على الإفلاس وأوضاعها الرديئة عُمومًا، فقالت:
« كانت خزينة الدولة ناضبة، ومواردها مُستنفذة. الجُنود لم يتقاضوا رواتبهم مُنذ ثلاثة شُهور. التجارة تتراجع شيئًا فشيئًا، لأنَّ أغلب فُروعها مُحتكرة من قِبل بعض الأشخاص المُحددين فقط. لا نظام إداري مُلائم في القطاع العام. وزارةُ الحربيَّة غارقة في الدُيُون؛ البحريَّة بِالكاد قادرة على الصُمود مع كُل هذا الإهمال الذي تتعرَّض له. رجالُ الدين مُستاؤون جرَّاء مُصادرة الأراضي منهم. العدالة تُباع بِالمزاد، من يأخذ حُقوقه هو من يدفع أكثر، والقانون لا يُطبَّق إلَّا لِصالح الأقوياء وأصحاب السُلطة. »
وكانت أعوام حكمها الأربعة والثلاثون من أعظم الأعوام التي مرت بها روسيا، فلقد ازدهرت الصناعات ونمت ، وخاصة الصناعات المعدنية في جبال الأورال ، وبنيت المدارس والمستشفيات، بينما استولت الدولة عام 1764 على أراضي الكنيسة، التي كانت أكثر كفاءة في ادارتها. وكانت كاترين متفتحة دائما للأفكار الجديدة. ويروى أنها كانت أول من طعمت ضد الجدري في روسيا.
وبالرغم مما أنجزته كاترين، إلا أنها لم تصل إلى حل أكبر مشاكل روسيا، اذ كان 90% من الشعب عبيدا في الأراضي، أو فلاحين فقراء، تحت رحمة ملاك الأراضي. وكثيرا ما كانت كاثرين تعبر عن هلعها لما هم عليه من حال مخيفة، لكنه لم يكن في مقدروها صنع الكثير لأن الأشراف الذن تحتاجهم ليشدوا أزرها، كانوا أكبر ملاك للأراضي. وكانوا يعارضون الإصلاح. وفي الواقع ، لقد منحت الأشراف سلطانا كبيرا على عبيد الأرض ، وسمحت لهم بفرض ضرائب فادحة، بعد سحق الثورة العظمى التي قادها پوگاتشيڤ في عام 1775 ، تلك الثورة التي استمرت لمدة عامين.
الحاكمة المطلقة
انتصرت كاترين، ولكنها كانت عرضة لكل المخاطر التي ينطوي عليها التغيير الفوضوي. فلكي تكافئ الجنود الذين حرسوها في سعيها إلى السلطة أمرت حانات العاصمة بأن تقدم لهم الجعة والفودكا مجاناً، وكانت النتيجة السكر انتشار بينهم انتشاراً كاد يقوض الأساس الحربي لقوتها. ففي منتصف ليلة 29-30 يونيو، بينما كانت كاترين مستغرقة في أول نوم لها خلال ثمان وأربعين ساعة، أيقظها ضابط وقال لها، “إن رجالنا مخمورون جداً. وقد صرح فيهم فارس من الهوصار “إلى السلاح! أن ثلاثين ألف بروسي قادمون لاختطاف أمنا (كاترين)! فتقلدوا سلاحهم وهم قادمون ليطمئنوا عليك”. وارتدت كاترين ثيابها، وخرجت، ونفت إشاعة قدوم البروسيين، وأقنعت محاربيها بالمضي إلى فراشهم. [1] ثم عرضها ابنها بولس للخطر. وقد بلغ السنة الثامنة من عمره وذلك أن بنين، وأشرافاً كثيرين، ومعظم الاكليروس، أحسوا أن الشرعية تقتضي تتويج بولس إمبراطوراً وتعيين كاترين وصية عليه، ولكنها خشيت أن إجراء كهذا يلقي بالحكم في أيدي أولجركيه أرستقراطية ستسعى إلى خلعها أو التسلط عليها. وأعلنت رسمياً أن بولس وارث للعرش، ولكن مؤيديه واصلوا إثارة المشاعر، وشب الابن على كراهية أمه لأنها سلبته حقه في التاج.
وحين ذاع نبأ الإنقلاب في أرجاء روسيا تبين أن الرأي العام خارج العاصمة مناوئ لكاترين. ذلك أن العاصمة عرفت عيوب بطرس مباشرة، وأجمعت عموماً على عدم أهليته للحكم، أما الشعب الروسي خارج سانت بطرسبرج فقد عرفه من التدابير السمحة التي أضفت على حكومته شيئاً من السمو. فجماهير موسكو، البعيدة بعداً لا يسمح لها بالإحساس بفتنة كاترين، ظلت معارضة في عناد لتوليها العرش. وحين اصطحبت كاترين بولس إلى موسكو (معقل التقاليد السنية) صفق له أهلها بحرارة، أما كاترين فكان لقاؤهم لها فاتراً. وندد كثير من أفواج الجيش في الأقاليم بجنود بطرسبرج غاصبين للسلطة القومية.
ولا علم لنا إن كان العطف الواسع على بطرس هو أحد العوامل في موته. ذلك أن القيصر المخلوع الذي تحطمت روحه راح يرسل الإلتماسات الذليلة لزوجته ويقول لها “ارحميني وأعطيني سلواي الوحيدة”-يعني خليلته-ويرجوها أن تسمح له بالعودة إلى أقاربه في هولشتين. ولكنه بدلاً من أن يلتقي هذا العزاء حبس في حجرة واحدة وفرضت عليه رقابة دائمة. وكان الكسبي أورلوف، رئيس حراسة، يلعب الورق معه ويقرضه النقود. وفي 6 يوليو 1962 (حسب التقويم الجديد)، ركب الكسبي في عجلة إلى سانت بطرسبرج وأنبأ كثيرين بأن بطرس تشاجر معه ومع غيره من الأتباع ومات في العراك الذي أفضت إليه المشاجرة. أما عن كيفية موته، فالتاريخ لا يعرف غير الشائعات التي لم تثبت صحة واحدة منها: قيل إنه سمم أو خنق، وإنه ضرب حتى مات، وإنه مات إثر “التهاب الأمعاء والسكتة الدماغية” وينتهي آخر من أرخ هذه الحقبة إلى أن “تفاصيل القتل لم يمط عنها قط اللثام تماماً، والدور الذي لعبته فيه كاترين يظل غير مؤكد.” ومن غير المحتمل أن تكون كاترين قد أمرت بهذه الفعلة، ولكنها لم تعاقب أحداً على ارتكابها، وأخفتها عن الجماهير يوماً، وقضت يومين في بكاء ظاهر، ثم سلمت بالأمر الواقع. وقد أدانتها أوربا كلها تقريباً بالقتل، أما فردريك الأكبر الذي خسر الكثير بخلع بطرس فقد برأ ساحتها، “كانت الإمبراطورة جاهلة تماماً بهذه الجريمة، وقد سمعت بها في يأس لم تصطنعه، لأنها توقعت بحق ذلك الحكم الذي يصدره عليها اليوم في كل إنسان.” ووافق فولتير فردريك. أما بولس ابن كاترين، فبعد أن قرأ الأوراق الخاصة التي خلفتها أمه عند وفاتها، خلص إلى أن الكسي قتل بطرس دون أي أمر أو طلب من كاترين.
كاترين العظمى.
وخلقت الحادثة مشاكل لكاترين كما حلت مشاكل أخرى: فقد أوحت بسلسلة متعاقبة من المؤامرات لخلعها، وتركتها في انزعاج متصل وخطر داهم وسط فوضى الحكم التي اكتنفتها. كتبت عن هذه الحقبة فيما بعد فقالت: “ظل مجلس الشيوخ متبلداً يصم أذنيه عن شئون الدولة. وبلغت كراسي التشريع درجة من الفساد والتفسخ كادت تطمس معالمها.” وكانت روسيا قد خرجت لتوها من حرب انتصرت فيها ولكنها كلفتها ثمناً فادحاً، فكانت الخزانة مدينة بثلاثة عشر مليون روبل، وتشكوا عجزاً بلغ سبعة ملايين روبل في العام، وافتضح حال المالية من رفض كبار المصرفيين الهولنديين إقراض المال لروسيا. وتأخرت رواتب الجند شهوراً كثيرة. وبلغ من سوء نظام الجيش أن كاترين خشيت أن يغزو تتار جنوبي روسيا إقليم أوكرانيا في أية لحظة. أما البلاط فقد اضطرب بالمؤامرات وأضدادها، وبالخوف من فقدان مناصب الكسب أو السلطة، أو الأمل في الظفر بها. وبعد سقوط بطرس بقليل ذهب السفير البروسي إلى أنه “من المؤكد أن حكم الإمبراطورة كاترين لن يكون أكثر من فاصل قصير في تاريخ العالم”. وكان هذا من قبيل التمني، لأن فردريك حزن على موت حليفه العابد لشخصه. وأخذت كاترين تلغي الأوامر التي أصدرها بطرس لمساعدة فردريك.
وحاولت الإمبراطورة أن تهدئ معارضة رجال الدين بتأجيل تنفيذ المرسوم الذي أصدره بطرس بتأميم أراضي الكنيسة، ثم أردفأت صدور أنصارها بما خلعته عليهم من مكافآت سخية: فمنحت جريجوري أورلوف بخمسين ألف روبل، وفتح الطريق أمامه إلى الفراش الملكي. وأعيد بستوزيف من منفاه، ورد إلى حياة مريحة ولكن دون أن يرد إلى منصبه.
كاثرين الثانية في شرفة القصر الشتوي في 28 يونيو 1762، يوم الإنقلاب.
ثم ترفقت بمن عارضوها من قبل. وقدم مونيش فروض الطاعة والولاء فصفحت عنه فوراً وعينته حاكماً على استونيا ولفونيا، وربما أعانتها هذه التدابير على الثبات فوق عرشها المهتز، ولكن أهم العوامل التي كانت عوناً لها هي شجاعتها وذكاؤها. ذلك أن سبعة عشر عاماً قضتها زوجة مهملة لوريث العرش علمتها رغم حيويتها الشابة قدراً من الصبر والحكمة وضبط النفس وخداع الحكم. وقررت الآن، في تحد لنصيحة بانين، وارتياب في ولاء مجلس الشيوخ ونزاهته وكفايته، أن تركز الحكم كله في شخصها، وأن تواجه ملوك أوربا المستبدين-باستبدادية تنافس جمع فردريك بين العسكرية والفلسفة. ولم تتخذ لها زوجاً. وإذ كان النبلاء يسيطرون على مجلس الشيوخ، فقد كان الخيار بين أرقراطية الملكة والاستبدادية المجزأة للسادة الإقطاعيين، وهو بالضبط الخيار الذي واجهه ريشلو في فرنسا للقرن السابع عشر.
وأحاطت كاترين نفسها بالكفاءة من الرجال، واكتسبت ولاءهم، بل حبهم في كثير من الحالات، ألزمتهم للعمل الشاق، ولكنها أجزلت لهم العطاء، ولعلها غالت في مكافآتهم، فقد أصبح بهاء بلاطها وبذخه عبئاً كبيراً على مواردها. وكان بلاطاً غير متجانس، مؤصلاً في البربرية ومصقولاً بالثقافة الفرنسية، ومحكوماً بامرأة ألمانية تفوق مساعديها تعليماً وذكاءاً. وقد أثمرت مكافآتها السخية للخدمات الاستثنائية المنافسة دون أن تكبح جماح الفساد. فكان الكثيرون من بطانتها يأخذون الرشاوي من الحكومات الأجنبية، واتخذ بعضهم موقف الحياد بقبول الرشاوي من طرفين متعارضين. وفي 1762 أذاعت كاترين على الأمة اعترافاً غير عادي، فقالت:
“أننا نعده واجباً أساسياً وضرورياً أن نعلن للشعب، بحسرة صادقة، أننا سمعنا منذ زمن مديد، وأننا الآن نرى في أفعال ظاهرة للعيان، إلى أي درجة استشرى الفساد في إمبراطوريتنا، بحيث لا يكاد يوجد منصب في الحكومة…. لا تعدو فيه على العدالة عدوى هذا الوباء. فإذا طلب إنسان وظيفة كان عليه أن يدفع ثمنها، وإذا شاء إنسان أن يدفع عن نفسه شر الافتراء، فبالمال، وإذا أراد أن يتهم جاره زوراً وبهتاناً ففي استطاعته بالهدايا أن يضمن نجاح خططه الشريرة”(12).
وكان بعض المؤامرات التي تكاثرت من حولها يستهدف إحلال إيفان السادس محلها. وكان قد قضى الآن رهين السجن إحدى وعشرين سنة بعد أن خلعه انقلاب ديسمبر 1741. ففي سبتمبر 1762 أفصح فولتير عن خوفه من أن “إيفان قد يطيح بمن أحسنت إلينا”(13)، وكتب يقول: “أخشى أن تقتل إمبراطورتنا العزيزة.”(14) فزارت كاترين إيفان، ووجدته “إنساناً مهملاً مهجوراً تردى في العته نتيجة السجن سنين طويلة”(15) ثم تركت لحراسه أوامر بأنه لو بذلت أي محاولة لم تصرح بها هي نفسها للإفراج عنه، فعليهم أن يقتلوا إيفان خيراً من أن يسلموه. وفي منتصف ليلة 5-6 يوليو 1764 ظهر ضابط في الجيش يدعى فاسيلي ميروفتش على باب السجن يحمل ورقة فحواها أنها أمر من مجلس الشيوخ بتسليم إيفان له. ثم مضى يعينه بعض من الجند وطرق باب الزنزانة التي كان حارسان ينامان فيها مع إيفان، وطالب بالدخول. فلما رفض طلبه أمر بإحضار مدفع لتحطيم الباب. فلما سمع الحارسان الأمر قتلا إيفان. وقبض على ميروفتش وأعلنت وثيقة عثر عليها في جيبه أن كاترين خلعت، وإن إيفان السادس أصبح منذ الآن قيصراً لروسيا. ورفض عند محاكمته أن يفضي بأسماء شركائه. وكان جزاؤه الإعدام. واتهم الرأي العام عموماً كاترين بقتل إيفان.(16) واتصلت المؤامرات. ففي 1768 أكد ضابط يدعى تشوجلو كوف أنه موكل من الله بالانتقام لمقتل بطرس الثالث، فتسلح بخنجر طويل، ووجد طريقة إلى القصر الملكي، واختبأ عند منعطف دهليز ألفت كاترين أن تمر فيه. وسمع جريجوري أورلوف بخبر المؤامرة، فقبض على تشوجلوكوف، الذي اعترف مفاخراً بأنه ينوي قتل الإمبراطورة، وكان جزاؤه، النفي إلى سييبريا.

وللحديث تتمة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى